Find Out More

Is your organization one of the Best Places to work in Egypt

workL

من تراب الطريق (1191)

من تراب الطريق (1191)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:37 ص, الخميس, 30 سبتمبر 21

الإمام الطيب والقول الطيب

(23)

أثر الخلط بين الثابت والمتغير على قضية التجديد

ترتب على آفة الخلط بين الثابت والمتغير، آفة الخلط بين ما يعد تشريعًا عامًّا وما لا يعد كذلك، وقد فصل الفقهاء الثقات فى هذه المسألة، وميزوا بين الحكم المراد به الاستمرار، وبين الحكم الظرفى أو الوقتى تبعًا لظرف معين أو وقت معين، ومن هؤلاء، فيما أشار الدكتور الطيب، الشيخ محمد مصطفى شلبى فى كتابه الضافى «تعليل الأحكام»، والإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت فى كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة»، وفيما أبداه ونقله الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه «أزمة الفكر السياسى»، وأيضًا فى كتابه «مبادئ الحكم فى الإسلام»، ولعلى أضيف ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور «محمد عبد الله دراز» فى أكثر من مؤلف من مؤلفاته، والبحث العميق الذى كتبه أستاذنا الشيخ عبد الوهاب خلاف بعنوان «مرونة مصادر التشريع الإسلامى» المنشور بمجلة القانون والاقتصاد التى تصدر عن كلية الحقوق جامعة القاهرة ـ عدد أبريل/ مايو 1945، ويتصل بذلك ما كتبه فى الاجتهاد الشيخ عبد المنعم النمر، وأستاذنا الجليل الدكتور محمد سيد طنطاوى الإمام الأكبر السابق.

ومن سوء الفهم، ومن أزمات التجديد، عدم التفرقة بين الشريعة وبين الفقه، فالشريعة هى الدين الذى أنزله الله تعالى، والفقه فهم بشرى واجتهادات بشرية، ولذلك فإنه لا يصح فى البداهة والأفهام إنزال الفهم البشرى منزلة الشريعة، واعتبار شروح وآراء العلماء هى هى الشريعة أو من الشريعة، وإضفاء عصمة لها كعصمة النص القرآنى أو النبوى، فذلك خلط وتخليط، لأن استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين، هى «معارف بشرية» يؤخذ منها ويترك، ولا يعنى هذا ـ فيما أبدى الدكتور الطيب ـ أن ندير ظهورنا لتراثنا الفقهى، أو نقلل من أقدار علمائنا وفقهائنا، وإنما معناه أننا لا نخلط بين الدين وبين ما هو بشرى يختلف باختلاف العقول والأفهام التى تصدت له، فنقبل الصحيح الجدير بالقبول، ونرفض أو نعرض عما أخطأه التوفيق والسداد، وهذا الذى نُعْرض عنه من الفهم البشرى، ليس إعراضًا عن الشريعة والدين الذى أنزله الله تعالى.

وجدير بالذكر ـ فيما أبدى فضيلة الدكتور الطيب ـ أن الخلط بين الفقه والشريعة، قد أدى إلى الوقوع فى «التقليد» واتخاذه منهجًا ثابتًا فى البحث عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة، والتقليد آفة تصادر ـ إذا تجذَّرت ـ على العقل وعلى الفكر وعلى أجيال من العلماء والفقهاء، ربما أتاح لهم الزمن ومعطيات الحضارة وتوافر المكتبات، وتصنيف وفَهْرَسة الكتب، ما كان متعذرًا ليس فى متناول السابقين من العلماء فى الزمن الغابر أو الماضى.

ولا يعنى هذا هجر ما اجتهد فيه السابقون، فالإطلال عليه والتعرف على عناصره وأدلته واجب، ولكن وجوبه هو لتوسيع الرؤية. وتعدد منابع الفهم، لا للمصادرة على عقول العلماء وعلى التجديد فى الفكر والفهم وفى الدين إلى آخر الزمان .

كثيرًا ما يؤدى التعمق وإعمال الفكر، إلى تجليات للنصوص لم تظهر للسابقين، أو إلى استيلاد معانٍ أو أحكام تلبى الحاجات المستجدة، وقد لا تكون هذه الحاجات هى هى الحاجات التى عرضت بذاتها فيما مضى، بل قد يطرأ عليها من تغيرات الظروف والأحوال والزمان والمكان، ما يجعل لذات الحاجة بعدًا أو أبعادًا أخرى زيادة عما كانت عليه، وقد تتغير معالمها تغيرًا جوهريًّا فى عنصر من عناصرها أو جانب من جوانبها، الأمر الذى يستوجب تجديد النظر والفكر، ويؤدى القعود عنهما إلى محاصرة العقل ومحاصرة الفكر ومحاصرة التجديد الواجب مواكبته لمستجدات الحياة.

ومن المستغرب أن تركن الأمة إلى التقليد فى عصرنا الذى امتلأ بملايين المتغيرات، وبالعديد من الكشوف العلمية، وما ساق إليه ذلك من رؤًى فقهية بصيرة متجددة، لذلك كان الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى على صواب ـ فيما أبدى الدكتور الطيب ـ حين أبدى أن الاعتزاز بتراث الماضين طبيعى وغريزى، ومن الحمق التنكر له، بيد أنه من الحق أيضًا، بل فى الأساس، أن الجمود من سمات الموت، وأن الحركة هى أهم خصائص بل علامات الحياة، وليس ببعيد عن العارفين أن كثيرًا من آيات القرآن الحكيم قد عابت على التقليد والمقلدين، ولعله لا يفوت أن كل ما احتج به المعاندون فى قبـول دعوة الإسـلام وهداية الله، أنهم كانـوا لا يحتجون إلاَّ بما وجدوا عليه آباءهم، فاحتج قوم إبراهيم إليه بقولهم: «بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (الشعراء 74)، وقال قوم شعيب له: «… أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا…..» (هود 87)، وقيل لموسى عليه السلام: «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا» (يونس 78)، وقالت ثمود لنبيها صالح: «أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا» (هود 62)، وبمثل ذلك قالت مدين لشعيب، وعاد لهود، وجاء مثل ذلك عمن تصدوا بالنكير للدعوة المحمدية، فجاء بالقرآن الحكيم: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (الأعراف 28)، «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» (الزخرف 22، 23). وقد قص الذكر الحكيم ما كان من ضيق وجمود منطق هؤلاء الأقوام مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى، وقد حاجاهم القرآن المجيد فى سورة البقرة بقوله عنهم : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ» ؟! (البقرة 170)، وجاء فى سورة المائدة: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ» ؟! (المائدة 104).

بداهةً فإننى لا أعنى بهذا الاستطراد أن أشبه الجامدين بما تجمد عليه الكفار والمشركون، وإنما أردت فقط أن أبين «علة الجمود» وأثره فى حرمان العقل من التفكير، وهو فى الإسلام فريضة جعلها الأستاذ العقاد عنوانًا لأحد كتبه الضافية.

وقد استشهد الدكتور الطيب فى بيان آفة الجمود وشل حركة التجديد والإبداع، بأحاديث من السنة، وبمرويات عن الصحابة والتابعين، تتفق فى غايتها مع مطالب التجديد الذى يصادره الجمود والتقليد والانغلاق.

www. ragai2009.com

[email protected]