2 أغسطس 2019، انتهى العمل بمعاهدة حظر الانتشار النووى بين روسيا والولايات المتحدة، السابق توقيعها قبل ثلاثة عقود عشية انتهاء الحرب الباردة، حيث الآمال منعقدة عليها، قبل أن تكتنفها الانتهاكات والشكوك المتبادلة بين البلدين، أدت إلى ظروف معقدة.. لا شىء سوف يوقفها عن استئناف سباق جديد للتسليح النووى بينهما، ومن ثم إلى نشوء حالة من القلق والترقب فى الجوار الأوروبى نظراً لما كانت تمثله هذه المعاهدة كحجر الزاوية لأمن أوروبا منذ 1989، ومن غير استثناء القلق عن توابع إلغائها بالنسبة لفوضى تسابق التسلح النووى المتكتم فى الشرق الأوسط، من باكستان إلى إسرائيل مروراً بإيران، ناهيك عن محاولات خليجية للحاق به، فضلاً عن تفاقم الجمود الذى يعترى المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وهى الدولة التى تحظى بحماية أمنية من موسكو وبكين، على غرار الدعم الأميركى لإسرائيل وحلفائها، وبالمقارنة بدعم روسيا اللا محدود لسوريا، لكن هذه المشاهد قد يلحقها تطورات ذات بعد آخر على مستوى العالم، ربما بناءً على نتائج الانتخابات الأميركية الرئاسية المقبلة.. التى يحتمل بحسب المراقبين أن تشهد تدخلًا روسياً من جديد، إذ إن للإدارتين الروسية والأميركية مواقف غير عدائية بشأن اتساع نطاق «الشعبوية» فى الاتحاد الأوروبى (بريكست مثالاً)، بحيث سيكون لهذه المواجهة الثلاثية المتوقعة بين كل من واشنطن وموسكو وبروكسل، حراك دولى محموم فى سبيل فوز نفوذ كل طرف بصداقات وحلفاء جدد.
إلى ذلك، فمن اللافت أن يبدو البيت الأبيض راضياً عن السلوك الكورى المتشدد خلال المفاوضات النووية والصاروخية بينهما، بعكس نقمته على السلوك الإيرانى من المسألة نفسها، ربما لوجود إسرائيل، ذلك فيما يبدو الدعم الروسى وكأنه لا يضيف شيئاً إلى الموقف العربى فى الشرق الأوسط، سوى ربما فى الاعتماد على أهواء شخصية ليس لها علاقة بنيوية بمؤسسات أو بمصالح محددة، ذلك فى الوقت الذى تعتبر فيه المنطقة إحدى ساحات الصراع التجارى بين الصين والولايات المتحدة، تناور بينهما روسيا، لأسبابها، إلا أن الصين تتأهب لقفزة كونية جيو- اقتصادية هائلة عبر «طرق الحرير الجديدة»، ذلك فيما تبدو الولايات المتحدة غير راغبة فى التورط فى مشاكل المنطقة، إلا من أجل إسرائيل، أو مقابل عائد مجز لهذا التورط إن حدث، ومع ذلك سيظل الشرق الأوسط، ولوجود إسرائيل فيه، منطقة جاذبة للتدخلات الخارجية.. التى دعت فى نهاية يونيو 2019 إلى اجتماع قمة ثلاثى فى القدس بين رؤساء الأمن القومى للولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، وصفه رئيس الحكومة الإسرائيلية بالتاريخى «غير المسبوق»، ربما لبحث الاستقرار – من وجهة نظرهم- فى الشرق الأوسط، الذى تتشابك فيه الاضطرابات والتيارات والمواقف المتلاطمة.
وأما عن أوروبا، وفيما ترغب ألمانيا، التى تقود مع فرنسا دفة الاتحاد الأوروبى، العمل على تهدئة التوتر مع إيران، خاصة بالنسبة للملاحة فى مضيق هرمز، ولتجنب التصعيد معها، فإن بريطانيا التى تستعد للخروج نوفمبر المقبل من الاتحاد الأوروبى، تتقدم على أميركا لما قد يسمى حرب الناقلات، فيما تتحرك واشنطن لتشكيل مهمة بحرية (15 ألف شخص) للعمل فى مضيق هرمز، مزودة بمقاتلات F 15 تحمل ذخائر عنقودية نوعية تعمل بالأشعة تحت الحمراء والليزر لتحديد الأهداف (قوارب صغيرة كالتى يستخدمها الحرس الثوري) وتدميرها بدقة، ذلك فى الوقت الذى تتعرض الأسواق الأميركية للاهتزاز بعد رفع الرسوم على الصين، وبالتوازى مع تواصل استنزاف الجنيه الاسترلينى (%7.8 فى العام)، تحت وطأة (البريكست)، التى قد تتزايد المخاوف بسببها.. من احتمالات تفتت الجزر البريطانية (انفصال اسكوتلندا- مأزق الحدود مع إيرلندا الشمالية.. إلخ)، ولتتصاعد المخاوف مؤخراً من مغبة تسليم قيادة بريطانيا لمعسكر يمينى بالغ التطرف فى مواقفه الشعبوية والعنصرية، ما يجوز معه وصف هذا الانشقاق العميق.. بأنه قد يؤدى إلى حرب بريطانيا مع نفسها، ربما على مذبح الحفاظ على الرابط الأنجلوساكسونى عبر «الأطلنطى» بين بريطانيا والولايات المتحدة، وبحيث يمكن القول بانتفاض أوروبا فى مواجهة سياسة الرئيس الأميركى «ترامب»، وضرباته المتلاحقة ضدها، كذلك بالنسبة لانتفاضها فى مواجهة سياسة الرئيس الروسى «بوتين» الساعية نحو نشر «الشعبوية»، فى دول الاتحاد الأوروبى، التى لا تزال قياداته مختلفة بشأن طريقة الرد المناسب على كل من واشنطن وموسكو، ذلك فيما استبقت إيطاليا دول الاتحاد الأوروبى إلى الانضمام للمبادرة الكونية الصينية «الحزام والطريق»- طرق الحرير الجديدة- مما يعتبر أول التحام للصين مع الأسواق الأوروبية.
وأما عن روسيا «الأوراسية»، من جانبها فى الغرب الآسيوى، فإن دورها يتعاظم شكلياً فحسب.. فى سوريا، وفى شرق البحر المتوسط، إذ يبدو وكأنه يتحكم فى مستقبل سوريا.. وفى مسارات التسوية بالمنطقة، إلا أن إيران فى الواقع هى التى لها اليد العليا- مع النظام- سواء فى سوريا (أو فى دول شرقى السويس العربية إجمالاً)، ومن خلال الخطة التى تسعى إليها مع العراق منذ أكتوبر 2016 لإحياء مشروع السكك الحديدية يضمهما مع سوريا بشبكة واحدة، (لا تنفصل برياً عن لبنان) وبحيث تمسك طهران مع الأنظمة المحلية (وفى سوريا) بقرار آلة الحرب الروسية، على غير ما قد يبدو على سطح المعارك الطاحنة (مثالاً) فى شمال حماة وجنوب إدلب وفى الساحل، إذ لا تخدم هذه المعارك المصالح الروسية بقدر ما تصب عوائدها لصالح إيران والنظام السورى، سواء من خلال استمساكهما بالأرض أو للتغيير الديموجرافى المتسارع فى سوريا (وفى غيرها) لمصلحة إيران.
فى ضوء ما سبق من سياق، ماذا عن مصر والعرب ليشاركوا به فى الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، الجارى الترتيب لها على قدم وسياق، من جميع القوى الدولية والإقليمية، فيما لا يقدم العرب فى سبيلها إلا النزر اليسير الذى لا يتناسب مع إيقاع السرعات المتفاوتة من حولهم، عبر صراعات ومشروعات وصفقات وحروب وإرهاب تموج بها منطقة الشرق الأوسط، قد تسفر عنها خلال سنوات قليلة.. أوضاع جديدة، سياسية واقتصادية ومجتمعية، لتشكل فى النهاية مستقبل المنطقة، المرتبطة ضمناً- صعوداً وهبوطاً- بخطة السلام الأميركية المعروفة باسم «صفقة القرن».. كقاسم مشترك فى تطورات الأوضاع فى الشرق الأوسط، والتى لولاها لما كانت قمم الأمن القومى الإقليمى قد التأمت فى غياب العرب، الذين يعانون من جانبهم سلامًا ليس غير بارد مع إسرائيل وحلفائها فى شرق البحر المتوسط، إلى إرهاب ممتد من شمال سيناء إلى ليبيا وتونس، إلى اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية فى السودان، ومن فشل الدولة فى الصومال، إلى الحرب على اليمن مجدداً، إذ انسحبت منها دولة الإمارات مؤخرًا لتبدأ مقاربات تفاوضية مع إيران بشأن تدخلاتها فى شرقى السويس (العربى)، وليس آخرًا عن شيوع فوضى سياسية لا محدودة، يفاقمها تدخل القوى الأجنبية من كل حدب وصوب لإرباك الأمن القومى العربى، الغائب عن بحث مقتضياته، سواء فى داخل المنظومة العربية أو حين لقاءات القمم لمستشارى الأمن القومى للقوتين العظميين.