خواطر مواطن مهموم 236

توفيق اكليمندوس

10:25 ص, الأحد, 31 مارس 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:25 ص, الأحد, 31 مارس 24

أوروبا وعشرون سنة من النوم (2)
 
أواصل رحلتى مع خلفيات الأزمة الأوروبية الحالية، لإظهار الطريق والأخطاء والخطايا الذين أدت إليها، والإنصاف يقتضى تفهم بعض التوجهات نظرًا لماضى القارة، لكن الإنصاف يتطلب أيضًا التشديد على الأخطاء التى لا يمكن التماس الأعذار لها.

انهيار الاتحاد السوفييتى والمعسكر الشيوعى كان سريعًا ومفاجئًا، كان الكثيرون يعلمون أن أحوال دول حلف وارسو ليست على ما يرام، وأنها لا تعرف كيف تتعامل مع الثورات التكنولوجية التى غيرت كل شيء، لكن سرعة التفكك كانت مذهلة.

وكانت ذكريات الحربين العالميتين قوية موجعة، وكان الكل يعلم أن صراع القوميات فى وسط وشرق أوروبا كان سبب الأزمة التى أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأن تبِعات هذه الحرب – وهى بمثابة انتحار أوروبى جماعى – أدت إلى ظهور أنظمة شمولية فى ألمانيا والاتحاد السوفييتى وإيطاليا وغيرها، وأن أطماع هذه الأنظمة وصدامها أحرقت القارة فى الحرب العالمية الثانية.

وكانت للهيمنة السوفيتية القاسية على أوروبا الشرقية بعد 1945 – «هيمنة» لفظ مخفف – بعض المزايا، منها منع إحياء النعرات القومية، واندلاع الفتن والحروب اللانهائية، وفى بداية التسعينيات اندلعت حرب أهلية بشعة فى يوغسلافيا بعد انهيار الدولة، ليذكر الكل بمخاطر الصراعات، وفى الوقت نفسه كان الغرب بصفة عامة، وأوروبا بصفة خاصة، يخشى تكرار السيناريو اليوغسلافى الكارثى فى دولة أخرى، وتحديدًا فى الإمبراطورية المتعددة الأجناس… الاتحاد السوفييتى.

سيطر على عقليات وسياسات الدول الغربية الخوف من سيناريو انهيار كامل للاتحاد السوفييتى، وظهور عدة دويلات تحارب بعضها لتصفية حسابات الماضى، ولكل منها أسلحة نووية، ومن هنا سعت الدول الغربية إلى دعم الدولة المركزية فى روسيا، وقدمت لها معونات بمليارات من الدولارات، وغضّت النظر عن بعض جرائمها – قامت السلطات الروسية بقصف البرلمان بالمدفعية على سبيل المثال، وأعيد انتخاب الرئيس يلتسين لولاية ثانية فى انتخابات شاهدت تزويرًا على نطاق واسع، وأخمدت السلطات تمردًا شيشانيًّا بوحشية، ومارست الدول الغربية ضغوطًا قوية على الجمهوريات السوفيتية السابقة لكى تسلم الترسانة النووية الموجودة على أراضيها لروسيا، مقابل وعود روسية باحترام سيادة وسلامة أراضى هذه الدول، وهى وعود لم يلتزم بها الرئيس بوتين خليفة يلتسين.

وفى بداية التسعينيات، راعت الدول الغربية الحساسيات الروسية عند تصديها لصراعات البلقان، وامتنعت عن التصدى للصرب لهذا لسبب ولغيره – تركت الولايات المتحدة إدارة الملف لدول أوروبا الغربية التى عجزت عن الاتفاق حول خطة عمل.

ولعبت الرغبة فى منع نهائى لعودة صراعات القوميات فى أوروبا الشرقية، ضد ضم أغلب الدول التى تحررت من القبضة السوفيتية إلى الناتو و/ أو الاتحاد الأوروبى، لتلتزم بالمعايير التى يفرضها الحلف على أعضائه، ودعمت اعتبارات أخرى التوجه المتبنى لهذا الضم، بعضها انتخابى، مثل وزن ذوى الأصول البولندية فى الولايات المتحدة، ومنها ما هو عاطفى، الإحساس بالذنب تجاه هذه الدول التى ابتليت لمُدد طويلة بالجيرة السوفييتية والجيرة النازية، لا يعلم القراء حقيقة دور الطيارين البولنديين فى الذود عن سماوات إنجلترا فى الحرب العالمية الثانية، وأخيرًا وليس آخرًا كانت هذه الدول قلقة جدًّا من الخطاب الصادر من موسكو، ونبه مسئول أمريكى سابق – بريجنسكى مستشار الأمن القومى للرئيس كارتر – إلى خطورة هذا الخطاب، فى مقال له فى «فورين أفيرز» سنة 94. ولم يستمع الغرب إلى نصائح الدبلوماسى الكبير جورج كينان، مهندس إستراتيجية الاحتواء التى اتبعتها الدول الغربية فى النصف الثانى من الأربعينيات، والمعارض للتمدد فى التسعينيات. وعلى عكس كينان، أعتقد أن التمدد كان قرارًا صائبًا ولا يمكن ضمه للقائمة الطويلة للأخطاء الغربية فى إدارة ملف العلاقات مع روسيا.

الرئيس كلينتون كان داعمًا بقوة للرئيس يلتسين، رأى فيه راعى عملية التحول الديمقراطى فى روسيا، وحاول بقدر الإمكان عدم إضعافه؛ خشية أن يصل الصقور إلى الحكم فى موسكو.

يتبع

  • أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية