توصل تقرير لوكالة بلومبرج إلى أن شركات التشفير الأمريكية تواجه حاليا أكبر حملة تنظيمية، بعد أن أقامت هيئة تداول السلع الآجلة الأمريكية يوم 27 مارس الماضي دعوى قضائية ضد ”بينانس“ ، أكبر بورصة أصول رقمية في العالم، مدعيّة أنَّها سمحت لعملاء أمريكيين بالتداول عبر منصتها الخارجية، برغم أنَّها قالت إنَّها لا تتيح ذلك.
كما نقلت تقارير إخبارية قبل ذلك بأسبوع أنَّ هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية تدقق في ”كوين بيس جلوبال“ ، أكبر منصة تشفير في الولايات المتحدة، وكذلك ”سوشي“ ، وهو تطبيق لامركزي شهير لتداول مئات الرموز.
محنة شركات التشفير الأمريكية
كما أقامت هيئة الأوراق المالية والبورصات دعوى قضائية في مارس ضد قطب التشفير جستن سن بتهمة التلاعب بالسوق، واتهمت مشاهير منهم ليندسي لوهان وجيك بول بالترويج لرموزه دون الإفصاح عن تلقيهم الأموال لقاء ذلك.
الرسالة الضمنية التي أرسلتها الجهات الناظمة تفيد أنَّها تسعى لترويض جميع أركان سوق التشفير تقريباً، سواء أكانوا من الأمريكيين الذين يتداولون عبر البورصات الأمريكية أو في الخارج، أو عبر منصات تديرها شركات تقليدية أو تطبيقات يُفترض أنَّ برمجيات تديرها.
قال جون ريد ستارك، وهو مستشار كان قد أسس وترأس مكتب إنفاذ الإنترنت لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات: ”إنَّها حملة تنظيمية ملحمية الأفق وهي متجهة لاشتداد… لم يبادروا بضرب أكبر اللاعبين، بل ركزوا بداية على الثمار الدانية. لقد بدأوا الآن بالتركيز أكثر على اللاعبين الرئيسيين، وهذا تحول كبير. لقد بدأت فسحة هذه الشركات تضيق”.
تهاوي سوق العملات المشفرة
ينقسم تنظيم العملات المشفَّرة في الولايات المتحدة بين وكالتين، وذلك يؤدي لبعض التداخل. تشرف هيئة تداول السلع الآجلة الأميركية على العقود الآجلة والخيارات والمشتقات، ومن ذلك العقود القائمة على ”بتكوين“، وهي رائجة في بورصة ”بينانس“ الدولية. أما هيئة الأوراق المالية والبورصات؛ فسلطتها تشمل كل ما يعد أوراقاً مالية، أي من الناحية القانونية؛ الاستثمار في مؤسسة يُتوقَّع أن تحقق ربحاً من جهود الآخرين.
سعت هيئة الأوراق المالية والبورصات منذ أول حالة تشفير في 2013 وراء طروحات العملات الأولية، ومقرضي العملات المشفَّرة، وعمليات الاحتيال المختلفة.
يميل هذا القطاع لتجاهل هذه الحالات باعتبارها حالات فردية، ويصرّ على أنَّ كثيراً من أعمال التشفير لا تندرج في خانة الأوراق المالية من حيث التعريف، وأنَّه لا ضرورة لتسجيلها لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات.
لكنَّ هيئة الأوراق المالية والبورصات عززت من إنفاذ القانون العام الماضي، حين بدأت سوق العملات المشفَّرة بالتهاوي، وارتفعت خسائر المستثمرين الأفراد، وانهارت بورصة ”اف تي اكس“ (FTX) وسط مزاعم بحدوث احتيال واسع النطاق. قامت في 2022 بنحو 30 إجراء متعلق بالعملات المشفَّرة، بزيادة 50% عن عددها في 2021، بحسب شركة ”كورنر ستون ريسرتش“ .
وقد وجّهت كل من هيئة الأوراق المالية والبورصات وهيئة تداول السلع الآجلة ووزارة العدل موجة تهم مدنية وجنائية ضد شركة ”اف تي اكس“ ومؤسسها سام بانكمان فريد، فضلاً عن مديرين تنفيذيين آخرين.
هل العملات المشفرة أوراق مالية؟
تواصلت دلالات مواجهة أكبر مع القطاع، فقد أكد رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات غاري غينسلر في خطاباته على مدى أشهر أنَّ جميع العملات المشفَّرة تقريباً هي في الواقع أوراق مالية، ويجب أن تخضع لنفس قواعد الإفصاح وحماية المستثمرين، مع ذلك؛ استمرت البورصات بتداولها.
كما أثار تساؤلات حول العملات المستقرة، التي يُفترض أن تكون أقل تقلباً من العملات المشفَّرة النموذجية، ووصفها بأنَّها “رقاقة بوكر في كازينو“، لكنَّ أعمالها ازدهرت. في الوقت نفسه، ضاعفت هيئة الأوراق المالية والبورصات تقريباً قدراتها فيما يخص التشفير ووحدته الإلكترونية في 2022.
رفعت الوكالة في وقت سابق من هذا العام دعوى قضائية ضد شركة بورصة العملات المشفَّرة ”جيميني“ ، وشركة التداول ”جينيسيس“ بسبب برنامج تديرانه أتاح للناس جني الفائدة عبر إقراض رموز مميزة يملكونها، مدّعيةً أنَّ هذا المنتج يرقى لأن يكون أوراقاً ماليةً غير مسجلة. جُمدت أموال مستخدمي هذا البرنامج بعد أن تأثرت ”جينيسيس“ بسقوط ”اف تي اكس“.
فرضت هيئة الأوراق المالية والبورصات لاحقاً غرامة على بورصة ”كراكن“ (Kraken) قدرها 30 مليون دولار في تسوية بشأن تهم مشابهة تتعلق بتقديم خدمة التحقق من تعاملات عبر ”بلوكتشين“، وهي طريقة شائعة أخرى من كسب عوائد من العملات المشفَّرة. لم تؤكد ”كراكن“ هذه المزاعم، كما أنَّها لم تقم بنفيها.
ترويج الرموز
حذرت هيئة الأوراق المالية والبورصات مُصدّر العملة المستقرة ”باكسوس“ من إجراء إنفاذي محتمل على العملة الرمزية التي تحمل علامة ”بينانس“، وتقول ”باكسوس“ إنَّ العملة ليست ورقة مالية، كما أنَّها ستتجه للقضاء إن لزم الأمر.
مع مجيء يوم 22 مارس؛ اتهمت هيئة الأوراق المالية والبورصات سن، الذي أسس شركة ”ترون بلوكتشين“ ، بجعل الموظفين يتولون صفقات تضخم حجم تداول الرموز بشكل مصطنع.
غرّد سن قائلاً: “نعتقد أنَّ الشكوى بلا سند.“. عمد ستة من المشاهير الثمانية الذين اتهمتهم هيئة الأوراق المالية والبورصات بترويج الرموز المرتبطة بشركات سن، ومنهم لوهان وبول، لتسوية التهم المدنية دون أن يقروا بالتهم أو ينفوها.
تلقت ”كوين بيس“ ذاك اليوم أيضاً إشعاراً من هيئة الأوراق المالية والبورصات، يُعرف باسم “إشعار ويلز”، تمهيداً لمقاضاتها بشأن بعض الأصول والمنتجات الرقمية المدرجة.
إن انتهى المطاف بقضية ”كوين بيس“ بأن تكون كاسحةً كما تبدو، فقد تُسبب موجات صدمة عبر نظام التشفير البيئي.
قالت هيلاري ألين، أستاذة القانون في ”أميركان يونيفيرسيتي“: “لقد أوضحت هيئة الأوراق المالية والبورصات موقفها عدة مرات عندما اعتبرت أنَّ جميع الأصول المشفَّرة تقريباً هي أوراق مالية… فإذا كان “إشعار ويلز” تمهيداً لإجراء تنفيذي يتعلق بتشغيل (كوين بيس) بورصة أوراق مالية غير مسجلة؛ فسيكون هذا الأمر تحركاً كبيراً جداً“.
قد تُصنّف بعد ذلك معظم العملات التي تُتداول إلى جانب ”بتكوين“، التي تعتبرها هيئة تداول السلع الآجلة سلعةً، على أنَّها أوراق مالية. سيقتضي ذلك إفصاحات وتسجيلات تفصيلية ومكلفة. كما قد تكون معظم البورصات عرضة لرسوم وغرامات من هيئة الأوراق المالية والبورصات بسبب طريقة ممارستهم الأعمال بأثر رجعي.
قضية مفصلية
أعلنت ”كوين بيس“ أنَّها ستحارب أي شكوى من هيئة الأوراق المالية والبورصات في المحكمة، وتصر على عدم إدراج أي أوراق مالية. كتب بول غريوال، كبير المسؤولين القانونيين لدى”كوين بيس“، في تغريدة في 22 مارس: “بعد سنوات من المطالبة بقواعد معقولة للعملات الرقمية؛ نشعر بخيبة أمل لأنَّ هيئة الأوراق المالية والبورصات تفضل المحاكم على إقامة حوار بناء… لكن إذا كانت تريد المحاكم؛ فليكن. سندافع عن سيادة القانون”.
قال أليكس ثورن، رئيس الأبحاث في شركة الاستثمار بالتشفير ”غالاكسي ديجيتال“ : “أعتقد أنَّ هذه القضية من شأنها أن تكون الأهم في تاريخ العملات المشفَّرة… إحدى نتائج قضية (كوين بيس) تتمثل في أنَّنا سنحصل على الأرجح على بعض الوضوح القانوني الفعلي“.
يعتمد بعض الفاعلين في القطاع على قضية ”كوين بيس“ في المحكمة العليا الأميركية، التي يهيمن عليها المحافظون، وربما يرغبون بتقليص سلطة الوكالات الفيدرالية. لكنْ داخلياً، تمضي عدّة شركات تشفير نحو تطبيق خطة بديلة بأقصى سرعة، فقد بدأوا ينظرون في فتح مكاتب أو يفرون بنقل عملياتهم إلى أماكن أكثر ترحاباً بالتشفير مثل دبي أو بعض الدول الأوروبية.
دعوى هيئة تداول السلع الآجلة الأميركية ضد ”بينانس“، ورئيسها التنفيذي جانبيغ جاو، قد توسع الهوة بين البورصات الخارجية والسوق الأميركية. تقول الوكالة في دعواها إنَّ الشركة ساعدت أو وجهت تعليمات لعملاء أميركيين، ومنهم شركات تجارية محترفة، لاستخدام الشبكات الافتراضية الخاصة وطرق أخرى لإخفاء مواقعهم.
من وراء حجاب
تسمح بورصة ”بينانس“ الدولية، التي لا يوجد لها مقر رسمي، لمستخدميها بإجراء صفقات ذات رافعة مالية أكبر وأخطر مما هو مسموح به عموماً في البورصات الأميركية، وهي ليست مسجلة لدى هيئة تداول السلع الآجلة الأميركية.
وصفت الوكالة جهود الامتثال لدى ”بينانس“ بأنَّها “خدعة”، كما اتهمتها بضعف ضوابط مكافحة غسيل الأموال. كتب جاو في مدونة أنَّ الشكوى تستند إلى حقائق “غير كاملة”، وطعن في هذه المزاعم. كما أعلن متحدث باسم ”بينانس“ أنَّ الشركة خصصت “استثمارات كبيرة” في العامين الماضيين كي تضمن إبقاء المستخدمين الأميركيين خارج المنصة.
قد تحتاج المشاريع المالية اللامركزية أن تعيد التفكير في عملياتها. كشفت بورصة ”سوشي“ في 21 مارس أنَّها تلقت أمر استدعاء من هيئة الأوراق المالية والبورصات دون توضيح السبب. نظرياً، تُشغل البرمجيات ومجتمع المستخدمين التبادلات القائمة على التمويل اللامركزي بدلاً من شركات تقليدية. لكن هذا لم يجعل الأشخاص الذين يعملون عليها بعيدين عن متناول المنظمين، فقد كانت هيئة الأوراق المالية والبورصات قادرةً على استدعاء رئيس ”سوشي“ جاريد غراي.
مشاكل البنوك الأمريكية
قال جينسلر في خطاب العام الماضي إنَّ منصات التشفير المركزية واللامركزية يجب تسجيلها لدى الوكالة. قال هنري إلد، رئيس التمويل اللامركزي في ”ويف ديجيتال أسيتس“ : “أعتقد أنَّ هناك الكثير من المشاركين في أسواق العملات الرقمية ممن يعتقدون أنَّ هذا أو ذاك الأمر لامركزي ولا يمكن تعطيله… هذه بالتأكيد دعوة للاستيقاظ. سيكون رد فعل بعض المشاركين أن يبقوا مجهولي الهوية. سنرى على الأرجح مزيداً من ذلك”.
تعمل هيئة الأوراق المالية والبورصات على إحكام قبضتها على القطاع فيما ضربت مشاكل البنوك الأمريكية قطاع التشفير. حذّر كل من مكتب المراقب المالي للعملة ومجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع البنوك في وقت سابق من هذا العام من مخاطر الأصول المشفَّرة والعملاء المرتبطين بالعملات المشفَّرة. منذ ذلك التحذير؛ قللت بنوك عديدة من تعرضها للأصول الرقمية، وانهارت البنوك الصديقة للعملات المشفَّرة ”سيلفر جيت“ و”سيجنيتشر“ ، مما صعّب أعمال شركات التشفير.
قال ستارك، المحامي السابق في هيئة الأوراق المالية والبورصات: “تتعرّض مساحة العملات المشفَّرة للضغوط ولحملات الإنفاذ من كل زاوية… لكنْ هذا أمر كان قد آن أوانه منذ أمد”.